الوقائع| تقرير..
منذ إعلان توقف إسرائيل ضرباتها صاروخية على أهداف في إيران قبل أيام، شهد قطاع غزة تصعيداً عسكرياً غير مسبوق، تحول فيه التركيز الإسرائيلي من صواريخ وطائرات متجهة نحو إيران إلى تكثيف الضربات على المدن والقرى الفلسطينية، وتفيد تقارير منظمة هيومن رايتس ووتش بأن هذا التغيير التفصيلي في الخطط العسكرية أفرز جرائم ترتقي إلى مستوى “جرائم ضد الإنسانية”، شملت تدميراً منهجياً للمنازل والمباني الحيوية وعمليات إجلاء قسري للسكان المدنيين دون بدائل آمنة.
في حصيلة رسمية، أفادت وزارة الصحة الفلسطينية بأن أكثر من 1.9 مليون فلسطيني نزحوا قسراً من منازلهم جراء القصف الإسرائيلي المتجدد، بينما دمّر القصف نحو 90% من المنازل والمرافق الأساسية في القطاع، ناهيك عن مدارس ومستشفيات ومقار للأمم المتحدة.. وتواصل القوات الجوية الإسرائيلية تنفيذ ضربات جوية يومية، تستهدف مناطق مأهولة بالسكان، ومحطات توليد الكهرباء ومحطات تحلية المياه، في خطوة وصفتها الأمم المتحدة بأنها “قابلة للإدانة جزئياً إذا ما ثبت انتهاكها القانون الدولي الإنساني”.
على جبهة العمل العسكري الميداني، قصفت طائرات (إف-35) أهدافاً في مخيم خان يونس الجنوبي، ما أدى إلى استشهاد أكثر من 50 مدنياً، بينهم نساء وأطفال، وإصابة مئات آخرين بجروح متفاوتة الخطورة، وفق ما نقلته وكالة “الجزيرة” من مصادر طبية ومحلية في غزة، كما تضرر مستشفى ناصر ومستشفى الأوروبي بشكل مباشر جراء قصف عنيف استهدف أجنحة العزل ووحدات الطوارئ، رغم إرسال إخطارات إخلاء متأخرة أبلغت السكان بوجوب مغادرة المباني في غضون ساعات معدودة، وفقاً لرسائل أرفقتها إسرائيل بإذن “إخلاء منطقة عمليات” عبر حساباتها الرسمية على تيليغرام وإكس (تويتر).
وبالتوازي مع الضربات الجوية، رصدت “وكالة الأنباء الفلسطينية” حالات تعذيب واعتداء جسدي على أسرى فلسطينيين بدا أنهم تم أسرهم خلال مواجهات سابقة، وأظهرت صور مسربة نقلتها مصادر صحافية محلية تعرّض الأسرى للضرب المبرح وإجبارهم على الوقوف لمدد طويلة دون طعام أو ماء، وهو ما يتنافى مع مقتضيات معاهدة جنيف بشأن معاملة أسرى الحرب.
من الجانب الإسرائيلي، برّرت ما يسمى وزارة الدفاع تصعيد العمليات ضد غزة بوصفها “رداً مشروعاً على اعتداءات إرهابية”، إلا أن المحللين السياسيين يرون أن وراء ذلك حرصاً على إبقاء الضغط العسكري وفك الالتزام جزئياً باتفاقيات التهدئة مع مصر والأمم المتحدة، بعد أن حققت إسرائيل ما سمتها “أهدافها في الصراع مع إيران” بتدمير قدرات صاروخية وبرية هناك، ما أطلق يد القيادة العسكرية في توجيه ضربات جديدة إلى غزة دون تقيد بمعايير القانون الدولي الصارمة سابقاً.
على الصعيد الدولي، دعت الأمم المتحدة إلى فتح تحقيق مستقل في الجرائم المرتكبة بحق المدنيين في غزة، وطالبت مجلس الأمن بسرعة إرسال لجنة تقصي حقائق تضم خبراء قانونيين وإنسانيين لتقييم الانتهاكات الإسرائيلية، فيما هدد الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات استهداف شخصيات محددة في الحكومة الإسرائيلية والقيادة العسكرية في حال استمرارا في سياسة “القصف العشوائي” دون التمييز بين المدنيين والمقاتلين.
وبرغم صدور بيانات إدانة من عشرات الدول والمنظمات الحقوقية، لم يسجل حتى الآن أي إحالة من قبل المدعية العامة في المحكمة الجنائية الدولية لقادة إسرائيليين جدد، الأمر الذي يثير مخاوف من إفلات مرتكبي الجرائم من العقاب، ويضاعف معاناة الفلسطينيين المتضررين الذين لا يملكون ملاذاً أو دعماً فعلياً يردع الاعتداءات ويتابع تنفيذ قرارات حماية المدنيين.
فيما تبدو توقعات الميدانية قاتمة، يشير مراقبون إلى أن استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية بالوتيرة الحالية سيؤدي إلى مزيد من التدمير وتفاقم الأزمة الإنسانية، خصوصاً مع نضوب مخزون الخدمات الأساسية في المستشفيات وشح الوقود والدواء، وسط تحذيرات من اندلاع موجة جديدة من الفيروسات والأوبئة نتيجة الاكتظاظ وسوء الظروف الصحية.
خلاصة القول، أن ما يجري في غزة اليوم لا يمكن فصله عن إعادة توجيه الطيران الحربي الصهيوني بعد إيقاف عدوانها على إيران، إذ حولت إسرائيل جهودها نحو غزة باعتبارها “الجبهة الأضعف” وعززت قوام الضربات الجوية والبرية بذريعة مكافحة الإرهاب وإعادة “الردع”، لكن على حساب عشرات آلاف المدنيين الأبرياء الذين دفعوا ثمناً باهظاً من دمائهم وبيوتهم ومستقبل أبنائهم.
ومع تواصل هذا النفق المظلم، تبقى الأنظار منصبّة على إمكانية قطع الطريق أمام المزيد من الانتهاكات عبر تحرك دولي فاعل، وفرض آليات رقابية تواجه منطق القوة القصوى، حيث لا تزال غزة ترزح تحت وابل قذائف لا يلوح في الأفق ما يردعها أو يرتدع عن مواصلة “أولمبية العنف” الذي تمارسه إسرائيل تجاه المدنيين الفلسطينيين بلا رحمة.